أدلة المانعين:ويستدل للمانعين من المصافحة - قديمًا وحديثًا - بما يلي:
1- امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن مصافحة النساء حال المبايعة، وفي هذا أحاديث: فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى النبي صلى الله عليه وسلم يمتحنهن بقول الله تعالى: {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} إلى آخر الآية [الممتحنة: 10]. قالت عائشة: فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات فقد أقر بالمحنة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهن، قال لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انطلقن فقد بايعتكن). لا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط غير أنه بايعهن بالكلام، والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء إلا بما أمره الله يقول لهن إذا أخذ عليهن: (قد بايعتكن) كلامًا
([13]).
قال الحافظ بن حجر: "قوله (قد بايعتك كلامًا) أن يقول ذلك كلامًا فقط لا مصافحة باليد، كما جرت العادة بمصافحة الرجال عند المبايعة"
([14]).
وقال الإمام النووي: "قولها: (والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط غير أنه يبايعهن بالكلام) فيه أن بيعة النساء بالكلام من غير أخذ كف، وفيه أن بيعة الرجال بأخذ الكف مع الكلام، وفيه أن كلام الأجنبية يباح سماعه، وأن صوتها ليس بعورة، وأنه لا يلمس بشرة الأجنبية من غير ضرورة كتطبيب وفصد"
([15]).
وعن أميمة بنت رقيقة أنها قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة يبايعنه فقلن: نبايعك يا رسول الله على أن لا نشرك بالله شيئًا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيك في معروف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فيما استطعتن وأطقتن"، قالت: فقلت: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، هلم نبايعك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أصافح النساء إنما قولي لمئة امرأة كقولي لامرأة واحدة أو مثل قولي لامرأة واحدة"
([16]).
وعلق بعض الباحثين المعاصرين على أحاديث البيعة هذه بقوله: وهذه الأحاديث تبين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصافح النساء في البيعة وهي نص صريح في ذلك، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يصافح النساء في البيعة فمن باب أولى أنه لم يصافح النساء في غير البيعة، فالرسول صلى الله عليه وسلم مع عصمته ترك مصافحة النساء ، فعلينا أن نترك ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أسوتنا وقدوتنا
([17]).
2- ما رواه الطبراني عن معقل بن يسار يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له"، وفي لفظ آخر عنده: "لأن يطعن في رأس رجل بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له
([18]).
قال المنذري: رواه الطبراني والبيهقي، ورجال الطبراني ثقات رجال الصحيح
([19])، وقال الهيثمي: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح
([20]).
3- عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كُتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج ويكذبه"
([21]).
يقول الإمام النووي: "معنى الحديث: أن ابن آدم قُدِّر عليه نصيب من الزنى، فمنهم من يكون زناه حقيقيًّا بإدخال الفرج في الفرج الحرام، ومنهم من يكون زناه مجازًا بالنظر الحرام، أو الاستماع إلى الزنى وما يتعلق بتحصيله، أو بالمس باليد بأن يمس أجنبية بيده أو يُقَبِّلها، أو بالمشي بالرجل إلى الزنى، أو النظر، أو اللمس، أو الحديث الحرام مع أجنبية، ونحو ذلك، أو بالفكر بالقلب، فكل هذه أنواع من الزنى المجازي، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه معناه: أنه قد يحقق الزنى بالفرج وقد لا يحققه بأن لا يولج الفرج في الفرج وإن قارب ذلك، والله أعلم.أهـ
ثم نقل قول ابن عباس في رواية أخرى في الصحيحين: ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة – أي بما في الحديث من النظر واللمس ونحوهما، وبين تفسيره للمم بذلك فقال: "فمعناه: تفسير قوله تعالى: {
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المَغْفِرَةِ}[النجم: 32]، ومعنى الآية والله أعلم: الذين يجتنبون المعاصي غير اللمم يغفر لهم اللمم، كما في قوله تعالى: {
إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}[النساء: 31]، فمعنى الآيتين: أن اجتناب الكبائر يسقط الصغائر، وهي: اللمم، وفسره ابن عباس بما في هذا الحديث من النظر واللمس ونحوهما، وهو كما قال، هذا هو الصحيح في تفسير اللمم"
([22]).
4- أن مصافحة الأجنبية ذريعة إلى الافتتان بها: فمن غير المقبول أن يُحَرَّم الشارع شيئًا، ثم يجعل الأسباب المؤدية إليه والمغرية به مباحة، ولا يرتاب أحد سَوِيّ في أن لمس الرجل شيئًا من بدن الأجنبية كما هو الحال في المصافحة ذريعة إلى الافتتان بها، وبما أن المصافحة كذلك فإنها تَحْرُم؛ لأنها مقدمة ووسيلة للافتتان بالمرأة.
5- أن الإسلام قد حرَّم النظر إلى الأجنبية بغير سبب مشروع، فمن باب أولى اللمس؛ لأن النظر أقل من اللمس، واللمس أعظم أثرًا في النفس من مجرد النظر، فاللمس فيه بعث للشهوة وتحريكها فوق ما في النظر.
قال الإمام النووي: " قال أصحابنا: كل من حرم النظر إليه حرم مسه، بل المس أشد، فإنه يحل النظر إلى الأجنبية إذا أراد أن يتزوجها، وفي حال البيع والشراء والأخذ والعطاء ونحو ذلك، ولا يجوز مسها في شيء من ذلك"
([23]).
إذن فقياس منع اللمس على منع النظر من باب قياس الأولى وقياس الأولى هو: ما كان الفرع فيه أولى بالحكم من الأصل؛ لقوة العلة فيه، مثل: قياس الضرب على التأفيف، بجامع الإيذاء، فإن الضرب أولى بالتحريم من التأفيف؛ لشدة الإيذاء
([24])، واللمس أبلغ من النظر قطعًا، يقول الإمام الرملي الشافعي في شرحه للمنهاج: "(ومتى حرم النظر حرم المس); لأنه أبلغ في إثارة الشهوة إذ لو أنزل به أفطر, بخلاف ما لو نظر فأنزل فإنه لا يفطر"
([25]).
([1])الصحاح مادة (صفح) 1/383 .
([2])المصباح المنير مادة صفح ص342 .
([3])لسان العرب مادة (صفح) 7/356 .
([4])فتح الباري 11/54 .
([5])الموسوعة الفقهية الكويتية 19/267 .
([6])شرح النووي على مسلم 9 / 105 ..
([7]) صحيح مسلم (1445) ، (1447) .
([8])تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 6/18، قال الزيلعي في نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية (6/128) عن الحديث المذكور: "غريب"، وكذلك قال عن الأثريين المرويين عن أبي بكر وابن الزبير رضي الله تعالى عنهما ، وقال الحافظ ابن حجر في الدراية في تخريج أحاديث الهداية (2/224) عن الحديث المذكور: "لم أجده"، وكذلك قال عن الأثريين المرويين عن أبي بكر وابن الزبير رضي الله تعالى عنهما .
([9])حاشية الصاوي على الشرح الصغير للشيخ الدردير 4/760 بتصرف ، والمرأة المُتَجالَّة: هي التي أَسَنَّت وكَبِرَتْ . لسان العرب لابن منظور مادة (جلل) 11/116 .
([10]) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 6/191، 192 .
([11]) حاشيتا الشرواني والعبادي على تحفة المحتاج للرملي 7/198 .
([12])كشاف القناع عن متن الإقناع 2/154، 155 . مع الآداب الشرعية لابن مفلح 2/257، 258، و غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب للسفاريني 1/325 .
([13]) متفق عليه: صحيح البخاري (4983)، وصحيح مسلم (1866)، واللفظ للبخاري .
([14])فتح الباري 8/636 .
([15])شرح النووي على مسلم 13/10 .
([16])سنن الترمذي (1597)، وسنن النسائي (4181)، وسنن ابن ماجة (2874)، وصحيح ابن حبان 10/417، وموطأ مالك 2/982، ومسند أحمد 6/357، والمعجم الكبير للطبراني 24/186، والدار قطني 4/146، 147، واللفظ لابن حبان .
([17]) الأدلة الشرعية على تحريم مصافحة المرأة الأجنبية. للدكتور/ حسام الدين عفانة.
([18]) المعجم الكبير للطبراني 20/211، 212 .
([19]) الترغيب والترهيب 3/26 ، ولم أقف عليه في السنن الكبرى ولا في شعب الإيمان من كتب البيهقي .
([20]) مجمع الزوائد 4/326 .
([21])متفق عليه: صحيح البخاري (5889)، وصحيح مسلم (2657)، واللفظ له .
([22])شرح النووي على مسلم 16/206 .
([23])الأذكار صـ 266 .
([24])أصول الفقه للشيخ محمد أبي النور زهير - رحمه الله تعالى- 4/ 259، 260 .
([25])نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 6/195